Flickr Images

Product :

Popular Posts

تلميذ اسمه عباس

بقلم الدكتور/ محمد منصور 

وأنا في الثانوية العامة كنت طالباً مجتهداً ومتفوقاً على كثير من أقراني ومع ذلك كانت لي علاقات صداقة متينة ببعض زملائي المتعثرين دراسياً في صفي وأغلبهم كانت تجمعني بهم إلى جانب زمالة الدراسة، صداقة الجوار في السكن والاشتراك في اللعب أثناء أوقات الفراغ، وهي صداقة دفعني إليها تعاطفي مع أحوالهم الدراسية المتردية من ناحيتي ورغبتهم في أن يتقربوا من تلميذ شاطر يساعدهم في فهم ما لايفهمونه وما أكثره من ناحيتهم، وكان يرضي غروري في ذلك الزمن البعيد أن يلتف حولي بعض الزملاء المتعثرين دراسياً وأنا أحل لهم مسألة صعبة في الفيزياء أو الرياضيات وسط عبارات استحسانهم وإعجابهم وكأنني ساحر يخرج من قبعته الأرانب، إلى جانب توبيخ الأهل لهم كلما رأوني بصحبتهم باعتباري زميلهم «الفالح» الذي ينبغي عليهم الإقتداء به، وكان يزيد اعتزازي بنفسي وشعوري بذاتي كلما ألح الأهل علي في أن «آخذ بالي منهم» وكأنني مدير المدرسة لا مجرد تلميذ فيها..

من بين هؤلاء الزملاء لا أنسى قصة «عباس» وحكايته في امتحانات آخر العام وهي الامتحانات التي تحدد مستقبل الطالب المصري للأبد، ويتم الاستعداد لها على مدار العام كله وأحياناً يبدأ الاستعداد من العام الذي يسبقه.

وبالرغم من أن عباساً ذاك كان من ضمن أصدقائي المتعثرين إلا أنه كان يطمع في دخول الجامعة، وكان لديه يقين لا أدري مأتاه أنه سيجتاز امتحانات الثانوية العامة بمجموع يذهب به إلى كلية الزراعة في أسوإ الأحوال.

على أن الرياح لا تجري دائماً بما تشتهي السفن فقد حدث أن امتحان الفيزياء النهائي كان شديد الصعوبة، حتى أن «عباس» لم يتمكن من فهم الأسئلة فضلاً عن أن يجيب عليها، وهكذا حين وجد نفسه وجهاً لوجه أمام ورقة الأسئلة وأيقن بالرسوب؛ قدح زناد فكره وقرر أمراً وراح ينفذه دون إبطاء متصوراً أنه سيجتاز المحنة بسلام.

أما الحل السحري الذي توصل إليه عباس فهو أن يستغل وقت الامتحان في كتابة رسالة رجاء واستعطاف للمصحح، ذكر فيها بأنه يتيم الأب وأنه تولى شؤون الأسرة بعد وفاة أبيه، وأن كفاحه وانشغاله في تدبير لقمة العيش له ولأخوته قد أنساه مذاكرة الفيزياء كما ينبغي لطالب بالثانوية العامة، وعلى هذا النحو مضى في كتابة رسالته التي أخذ يرجو المصحح في نهايتها أنه طامع في تفهمه وكرمه وانه لا يطلب منه أن يمنحه درجة عالية قد تثقل ضميره و تحمله إلى كلية الطب أو الهندسة وإنما يرجوه أن يمنحه درجة النجاح فقط وهي تكفيه وقتها لدخول كلية الزراعة!

وهكذا كتب الرسالة في كراسة الإجابة ووضع فيها من التوابل المثيرة للشفقة ماظن أن بإمكانه أن يؤثر على عاطفة المصحح، نقل الفقرات الهامة من رسالته إلى ظهر ورقة الأسئلة وخرج من اللجنة وهو مرتاح الضمير واثقاً من أن الدنيا «لسه بخير» وأن الناس الطيبين لم ينقرضوا بعد.

كنت أعلم أن امتحان الفيزياء كان صعباً خاصة وأنني شخصياً لم أكن موفقاً كما أحب في كل الأسئلة وبدأت أجهز نفسي للتعامل مع خيبة أمل عباس حين يقابلني خارج اللجنة وحشدت في رأسي عبارات المواساة والتشجيع فارغة المضمون في العادة وإن كان لها بعض التأثير في تخفيف الإحساس بالضياع عند البعض، بل لعلي فكرت وقتها أن أنصرف عائداً إلى البيت وأن أتحاشى مقابلة عباس وجماعته تماماً حتى يهدأ وتزول آثار صدمته، لكنني فوجئت به وقد خرج قبلي من اللجنة يقابلني بالأحضان وبابتسامة عريضة وسد علي الطريق وهو يشدني من يدي إلى ركن هاديء بعيداً عن بقية زملائنا وهو يقول :

- عايزك ضروري 

- خير 

- شوف دي 

ثم أخرج ورقة الأسئلة من جيبه ونشرها أمامي فتصورت أنه سيستشيرني في إجابة أستشكلت عليه ولم أجد بداً من مسايرته للنهاية، لكن حين وقعت عيناي على الكلام المكتوب اندهشت جداً فقد كانت رسالة بدأها بقوله «سيدي الفاضل الأستاذ المصحح... » جرت عيناي سريعاً بين السطور دون أن أقرأ شيئاً غير أنني تاكدت من أنها رسالة ولاعلاقة لها بالإجابات أو الأسئلة فقلت مستغرباً:

- ما هذا ياعباس؟ 

- زي ما أنت شايف .. جواب 

- أيوه عارف إنه جواب .. بس لمين؟

راح عباس يشرح فكرته وأنه استطاع أن يصور أوضاعه الأسرية بشكل مأساوي ترقق قلب الحجر على حد تعبيره، ثم أضاف أنه متأكد من أن حالته ستؤثر على نفسية المصحح، وأنه لم يطلب سوى درجة النجاح فقط لاغير.. لم أعرف حينها بماذا أرد عليه مع هذه الثقة التي تشع من عينيه وتعلقه المرضي بالأمل وتأكده من وقوع المصحح تحت تأثير كلماته، اعطيته الورقة واعتذرت له بأنني سأفكر في الأمر ثم أرد عليه فيما بعد لأنني على عجلة من أمري وانطلقت في طريقي مسرعاً وهو يسرع الخطى خلفي ويلوح بالورقة في الهواء صائحاً:

- أخدت بالك من أبويا ميت وباصرف على اخواتي؟

لم أرد فعاد يصيح خلفي:

- وأيه رأيك في أمي عيانة وهايجرالها حاجة لو سقطت؟!

أسرعت مبتعداً أكثر وهو يلاحقني بالعبارات المؤثرة من وجهة نظره، وظهرت النتيجة، ورسب عباس وأعاد السنة، لكنه كان كلما تذكر هذه الحادثة فيما بعد كان يهز رأسه متأسفاً ويقول:

- الناس اتنزعت الرحمة من قلوبها .. هو أيه اللي جرى للدنيا ؟





ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مجلة النجوم
تصميم : يعقوب رضا