عودة الروح
قصة قصيرة
بقلم السيد فريج
العاشرة مساءً، شتاءُ الإسكندريَّةِ الرائع، سماءٌ صافيةٌ وبردٌ مُنعِشٌ غيرٌ قارِص، إشارةُ الشاطبي المزدحمةُ دائمًا، أحمد يقود سيارته الفخمةَ يحييني بأدبه الجم وأومئ برأسي محيِّيًا وأراهُ كمَن يحادثُ آخرين فينظرُ يمينًا تارةً وللخلفِ أُخرى ولا أَرى أحدًا يرافقه وقد سبقته إلى النادي بشاطئ جِليم الراقي وفي أطرافه يجلس على منضدتِه الخاصة وكراسيه الوثيرة الأربعة التي جهزها على حسابه الخاص وهو المعروف بثرائه الواسع، جلستي المعتادة ليست ببعيدةٍ عنه، الشيشة وفنجان القهوة التركي وفي مواجهتِه زجاجة مياه وكأس فارغ، وعن يساره عدد من زجاجات البيرة، وعن يمينه كوب من اللبن الصافي، أدركتُ من ضيوفِه فأنا أعلمُ أنَّه كثيرًا يجالسُ نفسَه يرافقهما قلبه وروحه، وما إنْ تمر ثوانٍ حتى يعنف القلبُ نفسَه: ولِمَ؟ البيرة، وما بِهَا؟ فيصمت، يتدخل أحمد: دعها وشأنها ألا تتناولُ أَنتَ ما تُحِب، ولنفسه يقول: أراه محقًا، وأنتِ من توردينا الهلاك، (لمْ أكن أسترِق السمع أو أتصنت، إنَّما صوتهم مرتفع)، تحتدُ نفسه عليه: هذا أنا، وقَدْ مَتَّعْتُكَ بما تَمنَيْتَ وَرَغِبْتُ أنا، نعم أنتِ، وكنتَ تعشقُني وأحملك إلى كلِّ ملهى وحفل، ويُبادرُ القلبُ: أليْسَ ما تقولين هو المصيبةَ بعينِها؟ الروحُ تراقب، ثم تحادثُهم برقَّةٍ وسموُّ أن اصمتوا إنَّ اللهَ يسمعُ ويرى، وقد احتدم النقاش وزادت نبرةُ الصوْتِ حدةً، يُكمِلُ القلبُ: أيُّ انحطاطٍ أنْ تَدفعيه لخيانةِ جارِه وهو من ربَّاه واتخذهُ ولدًا، أي تصرُفٍ تهويِ بنا للخمرِ والقمار وهلاكِ المالِ والصِحَّةِ، ويخاطبُهُ أحمد بأدبه وعذب حديثه: وأنتَ لِمَ لَمْ تمنعها وتقدم لها حجةً وبرهانًا لسوءِ صنيعِها؟ لِمَ لَمْ تأخذْها لمسجدٍ أو مجالسةِ الصالحين؟ لِمَ لَمْ تهذبها وتهدِها وتمنعها عن الهوى؟ يصمت القلب، تنتهز النفس الفرصة لتزداد غضبًا، الروحُ تُحذِّرُ لن أجلس معكُم، فقد بات الناسُ يرقبوننا، تنتقدُها النفسُ وتسخرُ من زهدِها ورقَّةِ حديثِها، تستشعِرُ الروحُ حرجًا فترجوهم الانصراف للراحة فلا يعيروها بالًا، وبغيْرِ إذنٍ تنصرفُ صاعدةً، يسقطُ أحمد ميِّتًا، فارقته روحُه، القلبُ والنفسُ حزانى لحالِ سبيلِهما يذهبون، بكيتهُ كثيرًا والحاضرُون، واليوْم ومن مسجد القائد إبراهيم تم تشييع الجنازة والعزاء.
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق