جَاءَ رَاحِلاً
بَيْنَ مطرقة الْأَهْل وسندان الرَّغْبَة ، صَار أَخِي يَسْتَسْلِم شَيْئاً فَشَيْئاً إلَى صَرَخَات دَاخِلِة ، جَاءَنِي يَوْمْاً قَالَ :
_ أَخِي الْكَبِير ، أُريدكَ أَن تُسَاعِدُنِي فِي التَّفْكِيرِ ، بُتُّ بِلَا أَطْفَال وَالْأَمْر عَلِيّ عَسِيرٌ ، تَعِبَت مِن دُرُوب الْأَطِبَّاء وعلاجهم الْكَثِير ، وأنهكني العرافين وَهُم يَفْرِشُون الطُّرُقَات بِالْحَرِير ، وَأَنَا وَزَوْجَتِي نَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَنَا وَلَدٌ صَغِيرٌ ، يَمْلَأ عَلَيْنَا الْبَيْتَ وَيَكُونُ لَنَا ظَهِير .
احْتَرتُ بِمَاذَا أُجِيبُه فبادرته بِفِكْرِة :
_ لِمَ لَا تتبنى وَلَدَاً مِنْ الْفُقَرَاءِ ، لِيَكُونَ لَك ولبيتك نُوراً وَضِيَاء ، وَيُكبُرُ بَيْنَ أحضانكما وَيَكُونُ مِنْ الصُّلَحَاءِ ، وَتَنْهَي جَدلًا طَال وَحَدِيثًا كُلُّه هُراء .
فَاسْتَحْسَن الفِكْرَة فَذَهَبْتُ مَعَهُ لأقنع زَوْجَتِه بِالْأَمْر ، لِمَا وَصَّلْنَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ :
_ أَخِي الْكَبِير لَدَيْه فَكَرِة لينهي الْجَدَل ، عَلَى الْأَوْلَادِ فِي حَيَاتِنَا فَقَد أَصَابَنَا الْمِلَل ، ونهجر دَرْب الْأَطِبَّاء وَطَرِيق الدجل ، فَأَنَا لَيْسَ لِي بِغَيْرِك أَمَل ، وَلَا أُرِيدُ الزَّوَاج بِامْرَأَةٍ أُخْرَى وَيَكُون بَيْنَنَا عَتَّابٌ وزعل ، وَأَنَا مُتَمَسِّكٌ بِك حَبِيبَةً وَزَوْجِة لِيَوْم الْأَجَل .
تَوَجَّهَت بِكَلَامِي لِزَوْجَة أَخِي لِكَي أقنعها :
_ أَتَمَنَّى أَنْ يَنَالَ حياتكما الِاسْتِقْرَار ، وَإِن تبقيا سَوِياً وَإِن لايصيب حياتكما الانْهِيَار ، اِقْتَرَح عَلَيْكُمَا أَن تتبنيا وَلَداً مِنْ أُنَاسٍ أَخْيَار ، ليملأ عَلَيْكُمَا بِالْمَوَدَّة الدَّار ، فِكْرًا ملياً واتخذا الْقَرَار .
تركتهما وَبَعْد فَتْرَة تبنيا طِفْلاً مِنْ أُنَاسٍ فُقَرَاء ، رَاحَت الْأَيَّام تَمْضِي مُسْرِعَة ، الْوَلَد صَارَ كُلُّ شَيْءٍ لَهُمَا ، الْحَيَاة رَاحَت تَزْهُو ، الابْتِسَامَة بَدَأَت تَتَلأْلأ عَلَى شفاههما ، والابتسامة تفيض من وجهيهما ، حَتَّى جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، الطِّفْل كَانَ يَلْهُو فِي الشَّارِعِ جَاءَت سَيّارَة مُسْرِعَة قَتَلْته ، تَبَدَّد حلمهما فِي لَحْظَةِ ، اجْتَمَعْنَا لمواساتهم ، فَقَالَ أَخِي لِزَوْجَتِه وعيونه اِغْرَوْرَقَتْ بِالدَّمْعِ :
_ لَقَدْ كَانَ لَنَا مسلياً لَكِنَّه جَاء راحلا ، تَأْمُر الدَّهْر مَرَّةً أُخْرَى فَكَانَ جَاهِلًا ، اغْتَصَب فرحتنا فسدد سَهْمًا قَاتِلا ، وَتَرَكْنَا عَقْلاً وَجَسَدًا نَاحِلاً .
قُلْت لَهُ مواسياً وموعظا :
_ إنَّ اللَّهَ يَهَبُ مَنْ يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُجْعَل بَعْضُنَا عَقِيما ، اعْتِرَاضُك عَلَى حُكْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَكِيما ، لَقَد كِدْت تَرْكَن لِأَهْل السُّوء وتهدم بَيْتِك تهديما ، لِأَنَّهُم رسموا لَكَ خَيْراً واهما ونعيما ، لَكِن اعْلَمْ يَا أَخِي لَنْ يُصِيبُنَا إلَّا ماكان اللَّهُ بِهِ عَلِيما ، قِف عِنْدَ هَذَا وَإِلَّا سَيَكُون لَك الْوَجَع نَدِيما .
بقلم . . . مُحَمَّد الباشا
العراق
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق